• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التدوين حافظ لذخائر الفكر الإسلامي

د. محمّد عبدالرحمن مرحبا

التدوين حافظ لذخائر الفكر الإسلامي

إنّ تدوين القرآن في حياة النبيّ (ص) كان عاملاً أساسياً في تطوّر الوعي التاريخي عند المسلمين. فقد كان هنا القرار الهام تعبيراً عن أزمة الذاكرة العربية التي ثقلت بالأحداث وفقدت صفاءها المألوف، ذلك الذي تمتعت به في فترة سابقة على الإسلام، لها آفاقها الفكرية والاجتماعية الضيّقة. فقد أصبحت الذاكرة من هذا المنطلق جزءاً من الماضي، ملحقة بالموروث القبلي وما يختزنه من معلقات وأشعار وشجرات أنساب مطوّلة، تشابكت فروعها وضعفت أصولها على مرّ الزمن، بينما القرآن مدوناً ارتبط بالدولة والتحوّلات الجديدة في المجتمع.

والحديث أيضاً كان عاملاً بارزاً مؤثراً في الكتابة التاريخية العربية، فقد كان النبيّ (ص) محور اهتمام المؤرخين الأوائل وحافزهم على الكتابة التاريخية التي انطلقت من السيرة وتطوّرت أغراضها في عهود الخلفاء، بعد أن طغى الحدث على الشخصية التي أخذت تَبهُت أمام الشخصيات السابقة المتألقة والمنجزات الكبيرة المرتبطة بها.

وهكذا، فإنّ الذاكرة التي لم تستوعب القرآن استيعاباً تاماً، لم تعد قادرة على الاحاطة بالتفاصيل الواسعة في الإسلام؛ فكيف بالأخبار القديمة التي بدت عامّة أو غائمة فضلاً عن الإبهام المحيط بها، والأساطير الجانحة إليها، وكلّ ما يجعلها مختلفة اختلافاً كبيراً عن الأخبار الإسلامية.

إنّ قوة الذاكرة التي اشتهر بها العرب وأعطت لصاحبها امتيازاً على غرار ما تميز به الذهبي أو الطبري في القرن الثالث، لم يعد التوكؤ عليها وحدها ممكناً في ذلك الوقت، وكان هذا أحد الأسباب التي دفعت العرب إلى التدوين قبل القرن الثالث للهجرة (التاسع للميلاد)، بعد أن اتّسعت الشقة بين الحدث وتاريخه، وما لذلك من أثر سيء في طمسه وإضعافه رغم الحرص على توثيق السند والرجوع إلى المصدر. وقد ذكر الذهبي في هذا السياق، إنّ التدوين بدأ حوالي منتصف القرن الثاني، محدداً السنة الثانية والأربعين بعد المئة بأنّها السنة التي شرع فيها علماء الإسلام في تدوين الحديث والفقه والتفسير. على أنّ الذهبي برغم تحديده السابق لم ينفِ وجود الكتابة التاريخية قبل هذه السنة، ولكنّها أخذت تشيع وتأخذ تدريجاً مكان الذاكرة، حيث (كثر تدوين العلم وتبويبه، ودُونت كُتُب العربية، واللغة والتاريخ وأيام الناس) بعد أن كان (الأئمة يتكلّمون من حفظهم، أو يروون العلم من صُحف صحيحة غير مرئية)، لكنّها ليست قيد التداول، بل كانت جزءاً من التراث الشخصي.

والذي يهمنا من أمر التدوين هنا هو تدوين الشعر والأدب.. وهكذا فحيث يكون تدوين يكون تثبيت ويكون توثيق ويكون تدقيق، وحيث لا يكون تدوين يكون تلفيق ويكون تخييل، ويكون تهويل، ويكون تحويل، وتكون إشاعة.. أخبار متضاربة وروايات متعارضة، وتخليط وتشويه وقلب لأعيان الأشياء والحقائق. هنا حكايات الجن، وقصص لغيلان، ومعارك السماء والشياطين.. هنا كلّ شيء ممكن وكلّ شيء حقيقي إلّا الحقيقة الموضوعية.. هنا كّل شيء معقول إلّا منطق العقل..

التدوين كابح للأخيلة والأساطير والأكاذيب، إنّه يحفظ للحقيقة توازنها ويُبقي عليها تماسكها وانسجامها، أو على الأقل يصون كثيراً من عناصرها وخيوطها، ويمنعها من التشتت والضياع والتلف، فلا تتبدل معالمها ولا يختل كيانها، ولا يدخل في قوامها إلّا ما انتزع منها أي ما هو ثمين أن يكون جزءاً من طبيعتها ويكتمل به وجودها. فما دامت العناصر الأصلية للحقيقة التاريخية محفوظة، فإنّ الطريق أصبح ممهداً لإعادة تجميعها من جديد، وصياغتها الصياغة التي كانت لها في يوم من الأيام، أو تلك القريبة منها على الأقل. ومع ذلك فإنّ التدوين ليس ضمانة كافية للحقيقة، ولكنّه على كلّ حال يُمسك بالكثير من تلابيبها. أو هذا ما يُفترض به على الأقل. فكم من مُدوِّن لا يصدق تدوينه، وكم من ناقل شفوي جدير بالثقة والاحترام، وكم من قرينة تعدل ألف تدوين! هنا تتدخل طرق التحقيق التاريخي. فبالمقارنة والموازنة والمعارضة والنقد الداخلي للنصوص، وفحص الوثائق، وما إلى ذلك في التقنيات والوسائل وطرق البحث والنظر، يمكن تقويم الصورة المعوجة، والوصول إلى الحقيقة في مجردها، بعيدة بقدر الإمكان عن التزييف والتزوير، أو إلى شيء قريب من ذلك.

فللتدوين إذن حسنات كثيرة. فهو الذي حفظ القرآن والحديث والفقه والتفسير والأدب العربي منظومه ومنثوره. ولولا التدوين لضاع ميراث كبير، ولكن هذه الحسنات يجب ألا تنسينا ما له من سيئات وعيوب. إنّه كابح، والكبح يوقف الأخيلة والأساطير ـ وحتى هذه المسألة ليست أمراً مسلّماً به ـ فإنّه يوقف أيضاً تدفق الحياة. فإذا كان التدوين قد حفظ ما حفظ، فقد جمَّد حركة اللغة. فمما لا شك فيه أنّ التدوين هو الذي يثبت اللغة ويحفظها من الضياع، ولكنّه وهو يفعل ذلك يقف حجر عثرة في طريق إدخال تغييرات جوهرية عليها. أمّا التناقل الشفوي للأدب فهو الذي يمنحه حرّية أكبر في التغيير والتطوّر. إنّ لغة الأدب والشعر ليست متجمّدة بل هي لغة متطوّرة، وللشاعر أن يستخدم الكلمات المألوفة والموروثة، وأن ينحت كلمات جديدة على نمط الكلمات القديمة، وأن يستعمل المترادفات والأشكال البديلة، بل وأن يُطعِّم لغته بمفردات محلية.

فلغة الأدب والشعر العربية إذن لغة متعارف عليها دون أن تكون جامدة، فهي على الدوام متجدّدة. فلما بدأ عصر التدوين في أواخر القرن الثاني توقفت اللغة وبقي قالب الشعر الشفوي الموروث كما هو منذ ذلك الحين. شعراء عباقرة قاموا بتحويل مسار الشعر من القبيح المنقوش الذي وصلت إلينا شذرات قليلة منه إلى السلس الأنيق الجميل الذي لم يتوقف عن التجدّد والتطوّر إلّا ببدء عهد التدوين. ذلك أنّ شيوع الكتابة وفن تدوين الأدب يعني أنّ الشعراء أخذوا يهجرون رويداً رويداً تقنيات الأدب الشفوي العفوي ليدخلوا مرحلة التأليف المدروس المتأني، أي البعيد عن العفوية والتلقائية، والمشبع بالعقلانية وإعادة التفكير والصياغة والمراجعة وما إلى ذلك. فهم منذ الآن سينتقون الكلمات بعناية شديدة وسيستخدمون أساليب منمقة مصطنعة، ونحن لا ننكر أنّ هذا مسار التطوّر الطبيعي ولكنّه ما خالف لطبيعة الشعر الذي دفع الثمن غالباً ومناقض لازدهاره.

وعلى كلّ حال، لم يصل إلينا شيء ذو بال عن العصر الجاهلي. فليست لدينا معلومات توحي بالثقة عن تفكير القوم وعقائدهم وأديانهم.. فجُلُّ ما وصل إلينا في هذا المضمار إنّما كُتِبَ بعد الإسلام وبعقلية إسلامية صرف ضاعت فيها المعالم وافتقدت الصورة أهم ملامحها.. فلا يزال ما قبل الإسلام ـ تاريخاً وأدباً ومجتمعاً وثقافةً وحضارةً ـ يكتنفه ضباب كثيف بل ظلمة حالكة. وأكثر ما يصدق ذلك على عرب الشمال، وهم الذين يحرص الباحث في بذور الحياة العقلية وبواكيرها في الجاهلية الأولى على تقصي أحوالهم ودراسة منازعهم واتجاهات تفكيرهم وأنظارهم، لا، منهم ستنطلق الشرارة وينبثق الضوء. وإذا كان التاريخ قد حفظ لنا من آثار الجنوب ما يكفي للحكم على حضارات العرب القديمة، فإنّه لم يصل إلينا إلّا النزر اليسير من عرب الحجاز. ومن هنا صعوبة الحكم على الحياة العقلية في هذا الجزء من شبه الجزيرة قبل بزوغ الإسلام.

إنّ أقرب الفترات التاريخية والأدبية إلى عهد الإسلام هي الفترة الجاهلية. ويعتقد الكثيرون أنّ أوثق مرجع بين أيدينا عن هذه الفترة هو الشعر الجاهلي الذي يعتقد الكثيرون إنّه المحاولة الأولى لحفظ أحداث الماضي، والذي نكشف من خلاله صوراً صادقة أمينة عن الحياة الأدبية والاجتماعية والثقافية للعرب قبل الإسلام، حيث يتسنى للقارئ أن يطلع على أوجه حياة البدو ونمط الأخلاق والعادات والعقائد التي كانت سائدة بينهم، وطريقتهم في الحرب والقتال والنزال والصيال والطعان، وطموحهم إلى مكاسب الكرامة والحرّية والمنعة وقيم العزّ والفخر والشجاعة والبذل، وروح النجدة والمروءة والكرم..

لكن هذا المرجع (الشعر الجاهلي) لم يصل إلينا مباشرة، بل من خلال الكتابات الإسلامية التي يفصل بينها وبين الشعر الجاهلي وقت طويل يجعل المؤرخ لا يطمئن إلى ما روته الكُتُب الإسلامية عن التاريخ الجاهلي، بل يشكك فيها ويرى نفسه مضطراً للرجوع إلى مظان أخرى تساعد على كتابة هذا التاريخ وهي مع قلتها تقدم لنا مادّة لا بأس بها تظل خيراً من التاريخ الذي كان متعارفاً من قبل، والذي اصطبغ كثيراً بنزعات المؤرخين الإسلاميين، واتسم بميولهم وتصوّراتهم، وخضع لحاجاتهم الملحة إلى تأييد الدين الجديد بشتى الوسائل والأدوات المتاحة.

فالأدب الجاهلي هو في مجمله أدب شفاهي مسموع لا أدب مكتوب مقروء. إنّ مصيبة الشعر العربي إنّ أكثره قد ضاع، فلم يصل إلينا إلّا جزء يسير مما يسمى بالتراث الجاهلي، وإنّ ما وصل إلينا منه لم يصل سليماً، بل لقد وصل مختلطاً بالكثير من المنحول والموضوع، والمصنوع والزائف، حتى أصبح التمييز صعباً، قال أبو عمرو بن العلاء: ما انتهى إليكم مما قالته العرب إلّا أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير.

ارسال التعليق

Top